كتب : د. سامي ميعاري
في السنوات الأخيرة برز في مجتمعنا العربي جيل جديد يمكن أن نسميه ـ بلا مبالغة ـ "جيل الصناديق". جيلٌ لا يُبدع في بناء الأفكار ولا في إنتاج المعرفة، بل في البحث عن أبواب التمويل الخارجي، وإتقان لغة المشاريع الورقية، حتى باتت الجمعيات "المدنية" عنده أقرب إلى مؤسسات للمتاجرة بالشعارات أكثر منها منصات حقيقية لخدمة المجتمع.
المعضلة لا تكمن في وجود مؤسسات مجتمع مدني ـ فهذا حق مشروع وضرورة في كل مجتمع صحي ـ بل في أن جزءًا منها تحوّل إلى أدوات للاسترزاق باسم القضايا، يبتكر مشاريع وهمية، ويُجيد لعبة "التمويل مقابل الخطاب المطلوب"، مستغلاً هشاشة الواقع السياسي والاجتماعي. الأخطر من ذلك أن بعض هؤلاء لا يتورعون عن تقديم صورة مشوهة عن مجتمعهم في المحافل الدولية، وكأن طريق الاعتراف يمر عبر جلد الذات وتسويق الوهم.
إنها ثقافة الصندوق قبل الفكرة: حيث يصبح الهدف هو الحصول على المال، لا خدمة الإنسان. فتُدار الأموال في مسارات جانبية بعيدة عن حاجات الناس الحقيقية، ويُستثمر الدعم الخارجي في تعزيز وجاهة شخصية أو بناء شبكات نفوذ. والنتيجة: مجتمع يزداد هشاشة، وثقة عامة تتآكل، وجيل آخر يترعرع على قناعة أن الارتباط بالصندوق أهم من الانتماء إلى الأرض والقضية.
لقد آن الأوان لأن نقول بوضوح: لا لمتاجرة جديدة بآلام الناس وأحلامهم. المجتمع المدني الحقيقي يُبنى على الشفافية، والمحاسبة، والالتزام بالقيم، لا على "التسوّل السياسي" وتزييف الواقع. وإذا لم نضع حدًا لهذا الانحراف، فسنجد أنفسنا أمام مشهد تُدار فيه قضايا الناس بميزانية مشاريع لا تسمن ولا تغني من جوع.
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق