الفصل الأول: حين رفعت فستانها
بقلم رانية مرجية

لم يكن المشهد عابرًا.

كانت امرأة في منتصف العمر، ملامحها متعبة كوجه مدينة قديمة مهملة. رفعت فستانها لتقضي حاجتها وسط الشارع، في وضح النهار، تحت عيون المارة. لحظةٌ قصيرة لكنها هزّت كل من رآها.



توقف الناس.

بعضهم ضحك بخبث، بعضهم أشاح وجهه وهو يتمتم: “يا للعار!”، والبعض الآخر التقط الصور ليتسلّى. لكن لم يقترب أحد ليسألها: لماذا؟



أنا لم أرَ عارًا.

رأيت كرامةً مسلوبة، وإنسانًا محاصرًا لم يجد مكانًا يختبئ فيه من قسوة العالم.

لم ألومها. ولم ولن ألومها.

لأنني أعلم أن أحدًا لا يختار أن يُهين نفسه هكذا. لا أحد يختار الجحيم.



هي لم تكسر الحياء.

نحن الذين كسرناها حين تركناها بلا مأوى، حين صادرنا حقها في الأمان، حين جعلنا من أجساد النساء حقلاً للتشريع والوصاية.

هي لم تفضح نفسها، بل فضحتنا جميعًا.



يا أصدقائي،

نحن بارعون في الإدانة، فاشلون في الإصغاء.

نعلّق الصلبان على جدراننا، نرفع الأذان في مساجدنا، نقرأ الكتب المقدسة، لكننا نفشل في أبسط امتحان: أن نكون إنسانيين.



الله لا يعرّفنا من صلواتنا ولا من طقوسنا.

الله يعرفنا من قدرتنا على أن نرى المرأة المكسورة فنقول: “تعالي، نحن معك.”

الله يعرفنا من قلوبنا التي تفتح، لا من أفواهنا التي تدين.



حين رفعت تلك المرأة فستانها، رفعت معنا مرآة. مرآة كشفت وجوهنا على حقيقتها: مجتمع يختبئ وراء كلمات العيب والشرف، بينما يترك أضعف أبنائه ينهارون في العراء.


الفصل الثاني: صمت الجرس


في طرف القرية، ارتفع برج صغير تعلوه قبة متواضعة. وفي أعلاه كان يتدلّى جرس صدئ، مائل كشيخ أثقلته السنون.

لم يُقرع منذ زمن طويل. لم يعد أحد يتذكر آخر مرة دوّى صوته في الأرجاء. كأنما اختار أن يصمت، أو كأنما صمتُه كان احتجاجًا على لامبالاة البشر.



مريم، تلك الفتاة التي عاشت يتيمة في القرية، كانت أكثر الناس تعلقًا بالجرس. تمر بجواره كل يوم وتحدّث نفسها:

“أترى يختار الجرس أن يسكت؟ أم أن أيدينا نحن هي التي منعته من الكلام؟”



كانت تعرف الجواب، لكنها تحب أن تسأل. فالأسئلة وحدها تمنحنا وهم الحياة أحيانًا.

تقول في سرها: “كلنا أجراس. نحتاج يدًا توقظنا، أو قلبًا يسمعنا. من دون ذلك نصبح مثل هذا الجرس: ثقيلين، معلّقين في الهواء، بلا صدى.”



مريم لم تكن تبحث عن الدين، كانت تبحث عن معنى.

اليُتم جعلها ترى الحياة بعينين جائعتين، لكن روحها بقيت تقاوم. فقدت الأبوين مبكرًا، وتركها الأخ هاربة إلى مدينة بعيدة، لكنها بقيت هنا، تحمل على كتفيها وحدتها كصليب صامت.



في إحدى الأمسيات، جاءها طفل صغير وسألها:

ـ “لماذا لا يقرع الجرس يا مريم؟”

ابتسمت وقالت:

ـ “لأنه لا يريد أن يضيّع صوته في الفراغ. الجرس لا يقرع ليملأ الهواء، بل ليوقظ القلوب.”



ومرت سنوات أخرى، حتى جاء صباح غريب. كانت السماء رمادية، والقرية مثقلة بصمت أشد من الموت. شعرت مريم أن روحها تختنق.

صعدت إلى البرج، وضعت يدها على الجرس البارد، وأغمضت عينيها.

همست:

“حتى لو لم يسمعني أحد، سأقرعك. الصمت لم يعد يحتمل.”



رفعت جسدها النحيل وأدارت الحبل بكل ما بقي من قوة.

ارتجف الجرس أول مرة، ثم انطلق صوته مدويًا، خشنًا، مليئًا بالصدأ، لكنه صادق.



توقفت القرية كلها.

بعضهم خاف، بعضهم بكى، وبعضهم ابتسم كأنهم تذكروا شيئًا ضاع منهم.

أما مريم، فجلست على عتبة البرج، والدموع تغسل وجهها، وقالت:

“لقد أيقظت نفسي قبل أن أوقظهم.”


الفصل الثالث: وجه آخر للجحيم


1.
الجحيم ليس نارًا


نعم، الجحيم ليس نارًا تتوعدنا بها الكتب المقدسة في الآخرة.

الجحيم هو هذا العالم حين ينزع عن الإنسان كرامته.

هو شتاء بارد تنام فيه طفلة على الرصيف.

هو بيتٌ مليء بالضجيج، لكنه خالٍ من الحب.

هو امرأة تصرخ ولا يسمعها أحد، رجل ينهار ولا يجد كتفًا يستند إليه.



الجحيم أن ترى وتدّعي أنك لم ترَ.

أن تسمع وتتصنع الصمم.

أن تردد اسم الله بينما تنسى أن الله يسكن في قلب من جاع ومن بكى.

2.
العار الذي نحمله


يظن الناس أن العار في جسد امرأة، أو في فعلٍ لحظة ضعف.

لكن العار الحقيقي هو في قلوبنا نحن.

في قسوة نمارسها على من هم أضعف، وفي تبريرنا للظلم باسم الشرف والدين.

العار أن نعلّق الكلمات الكبيرة على جدراننا: “الفضيلة، الطهارة، العفة”، بينما نترك الإنسان نفسه ينهار في العراء.

3.
وجه آخر للفقر


الفقر ليس مجرد نقص في المال.

الفقر هو أن تُسلب من حقك في أن تكون إنسانًا كاملًا.

الفقر أن لا يراك أحد.

أن تصبح شفافًا إلى درجة أن تمرّ بينهم كهواء ملوث، لا أحد يلتفت، لا أحد يمدّ يدًا.

4.
القداسة الكاذبة


ما أكثر ما نتحدث عن الله.

لكننا ننسى أن الله لا يحتاج مدائحنا، بل أفعالنا.

الله لا يسكن في خطبكم، بل في فعل صغير:

كوب ماء تقدمه لعابر عطشان،

كلمة طيبة تقولها لمن انكسر،

عين ترى ما وراء المظاهر وتبحث عن الإنسان.

5.
حين نصبح سفراء


الجحيم يمكن أن يُخمد أحيانًا بحب صغير.

ابتسامة في وجه من خجل من دموعه.

لمسة يد تقول: “أنا معك.”

صوت يقول: “لن أتركك وحدك.”



أن تكون سفيرًا للحب ليس ترفًا، بل واجبًا.

أن تكون سفيرًا للخير ليس شعارًا، بل امتحانًا.

من يدّعي معرفة الله دون أن يكون سفيرًا للإنسان، لم يعرف الله بعد


الفصل الرابع: شظايا وجدانية


1.
عن الله


الله لا يسكن في السماء البعيدة.

الله يسكن في قلب جائع يشتهي رغيف خبز،

وفي يد ممدودة تنتظر يدًا أخرى تمسك بها.

2.
عن المرأة


كل امرأة تحمل وطنًا صغيرًا في رحمها،

لكن هذا العالم لا يرى فيها سوى جسد.

المرأة ليست ضلعًا ناقصًا،

المرأة هي القلب الذي به يكتمل الإنسان.

3.
عن الفقر


الفقر ليس أن لا تملك مالًا،

الفقر أن لا تجد من يسألك: “كيف حالك؟”

أن تصبح مرئيًا فقط حين يريدون أن يستخدموك،

ومخفيًا حين تحتاج أن يروك.

4.
عن الجحيم


الجحيم ليس في الآخرة.

الجحيم أن تنام بجانب من لا يراك.

أن تصرخ في بيت مليء بالناس

ولا يجيبك أحد.

5.
عن الحب


الحب ليس رواية رومانسية،

الحب أن تجد أحدًا يسمعك حين تعجز عن الكلام.

الحب أن يراك شخص في لحظة انكسارك

ويقول: “أنت ما زلتَ جميلًا.”

6.
عن الأطفال


كل طفل يولد وفي عينيه نور،

لكن الكبار يتفننون في إطفائه.

الأطفال لا يولدون قساة،

نحن الذين نعلّمهم القسوة.

7.
عن الصمت


الصمت لغة،

لكننا نُسيء قراءتها.

الصمت ليس ضعفًا دائمًا،

الصمت أحيانًا حكمة، وأحيانًا موت بطيء.

8.
عن الحرية


الحرية أن تكتب ما تشاء دون خوف،

أن تبكي دون أن تُتَّهم بالجنون،

أن تقول “لا” في وجه من أراد أن يسلبك صوتك.

9.
عن الموت


الموت ليس نهاية،

الموت هو غيابك عن قلب من أحبك.

أما جسدك، فمصيره دائمًا واحد: تراب.

10.
عن الإنسان


الإنسان لا يُعرَف من دينه،

ولا من حزبه،

ولا من نسبه.

الإنسان يُعرَف من لمسة قلبه للآخر.


الخاتمة: رسائل من الله إلى الإنسان


يا عبادي،

أنا لستُ بعيدًا كما تظنون.

لستُ ساكنًا في معابدكم وحدها، ولا حبيس كتبكم المقدسة.

أنا في قلب الجائع، في دمعة المهمّش، في صرخة امرأة لم تجد من يسمعها.



لا تبحثوا عني في صلوات طويلة بلا حب،

ولا في أصوات مرتفعة بلا رحمة.

ابحثوا عني حين تمسحون دمعة،

حين تفتحون بابًا ليتيم،

حين تقولون كلمة صدق في وجه ظالم.



أنا لا أحتاج أن تمدحوني،

أنا أحتاج أن تحبّوا بعضكم.

أحتاج أن تتركوا قسوتكم،

أن تتوقفوا عن بناء جحيم لبعضكم بأيديكم.



أيها الإنسان،

أنا لم أخلقك لتكون قاضيًا على أخيك،

ولا سجّانًا لامرأة،

ولا جلادًا لطفل.

خلقتك لتكون نورًا صغيرًا في هذا العالم المظلم.



كونوا سفراء للحب.

كونوا سفراء للخير.

كونوا مرآة تعكس وجهي الحقيقي: الرحمة.



وحين يسألكم أحد: “أين الله؟”

قولوا له:

الله هنا،

في اليد التي تمتد،

في القلب الذي يغفر،

في الصرخة التي تتحول إلى عناق.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com