هادي زاهر
بَعد مُراجعة نَتائِج الفحوصات، لَمْ يخلّ الحديث من عتاب ثقيل:
– لماذا لم تأتِ قبل الآن؟ شرايين قلبك مغلقة! كيف كُنتَ تعيش؟ خذ… وقّع هنا، لا وقت نضيّعه!
– وهل حالتي خطيرة إلى هذا الحدّ؟
– وأكثر! كان عليك أن تعتني بنفسك أكثر… كيف صبرت كلّ هذا الصّبر؟!
وقّعتُ على الاستمارة، ونُقلت إلى غرفة العمليات. هناك، أخبروني أنّهم لا يستطيعون إجراء سوى عملية واحدة نظرًا لصعوبتها، أما العملية الثّانية فستُجرى بعد ثلاثة أيّام. أسلمت أمري لله وللأطباء.
عند دخولي إلى العمليّة، ظننتُ أنّني لَنْ أشعُرَ بألمٍ شديد، لكن إبر التّخدير كانت سطحيّة وَلَمْ تؤدِّ وَظيفتها كما يجب، عِلمًا بأنَّني لا أتعاطى المخدّرات ولا المشروبات الرّوحيّة أبدًا.
زاغ فكري إلى حيث يُباد أهلي… وجاء الصّراخ.
يا الله، أيّ عذابٍ هذا؟! ربّما هذا الألم لا يساوي 1% ممّا يشعر به أبناء شعبنا الّذين يُنسفون ويُحرقون أحياء، وهناك، حيث الإبادة غير المسبوقة عبر العصور، يُضطرّ الأطبذاء لإجراء عمليات جراحيّة أو حتّى دماغيّة دون أيّ تخدير!
استمرّ صُراخي، حتّى قال أحدهم: "أوشكنا على الانتهاء… لماذا تبكي؟ هل أنت طفل؟!"
بعدها نُقلت إلى غرفة العناية، وثبّتوا الأجهزة المختلفة في جسدي…
– نام، لا تتحرَّك.
كانت زوجتي بجانبي، قالت:
– انسَ كلّ الدنيا، وفكّر بنفسك وبصحّتك.
تُهت بين اليقظة والنّعاس، لكن… مَن هُوَ مِثلي لا يَستطيع الانقطاع عَنِ الواقع.
نَظَرتُ إلى الشّاشة، وإذا بالخبر: "وفاة الرّفيق زياد الرّحباني".
ذاك الفنّان المميّز بحسّه المرهف، بضميره، بشجاعته، بسخريته… وانتفضت منزعجًا.
– مالك؟ لا تفكّر بشيء الآن.
– لقد اعتبره البعض مجنونًا، لأنّه وضع النّقاط على الحروف بدقّة متناهية… ويا لروعة هذا الجنون!
– عمّ تتحدث؟ هل تهلوس؟ اِهدأ… اِهدأ.
كانت جارة القمر تجلس بصمتها، بوقارها، بزخمها الخالص…
آه منكِ يا فيروز، كم عكستِ من ضوءٍ على أمّة لا تستحقّ!
ساد الحزن المكان، وعمّ الصّمت، وليس هناك أبلغ من الصّمت ما يُقال.
وبين وجعٍ ووجع، شاهدت… يا لروعة ما شاهدت!
إنّها العملاقة… زهرة الجنوب، الّرفيقة سهى بشارة، تلك الّتي شلّت ذراع الجرذ الّذي هرب إلى تل أبيب ليفتح كشك فلافل بعد أن أنهى ما أُنيط به.
كيف استطعتِ يا سهى أن تبقي في الصّندوق سنوات طويلة؟
لعنة الله على الاحتلال، كم هو قاسٍ…
اقتلوني أو اقتلوها، لكن لا تتركوها سنواتٍ داخل الصّندوق!
استمرّت المعاناة، حالة شديدة من الوجع، وكان نفسي ضعيفًا.
استمرّ حواري مع ذاتي:
هل هذه ستكون نهايتي؟
لا… لا. كثيرون مرّوا بهذا المسار وعادت لهم صحّتهم كما يجب، فلماذا الخوف؟
ثم، وإن مُتُّ… سأرتاح من معاناة الوجود.
جاءوا بأنبوب الأكسجين، منحوني شحنة منه، فارتحت قليلًا.
كنت، حتى أُخفّف المعاناة، أمارس الشّهيق والزّفير رويدًا رويدًا، وتهت في عالمين…
وبينما أنا في تلك الحالة، دخلت مطربتي المفضلة، جوليا بطرس، ودقّت كلماتها الّتي فجّرت حجارة الصّّوان في جمجمتي، بينما لم تُحرّك شيئًا في الأمّة!
"وين الملايين؟ الشّعب العربي وين؟!"
تحاول الحبيبة أن تُوقظ الغيرة في النّفوس… ولكن عبثًا.
يظهر الفنّان الملتزم مارسيل خليفة ليسمعنا كلمات شاعر المقاومة، سميح القاسم:
"منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي"
أصارحكم، واغفروا لي صراحتي…
أخي مارسيل، اترك غصن الزّيتون.
فالمجرمون لا يعيرون اهتمامًا لا للزّيتون… ولا لطيور الحمام.
الوضع غير طبيعيّ أبدًا…
وأنت في قمة وجعك، تحاول أن تستوعب ما يحيط بك، يغلبك النّوم، لكن حدثًا جللًا ينتصب أمامك…
إنّه المارد، الرّفيق جورج إبراهيم عبد الله، المناضل الّذي حكم عليه في فرنسا 20 عامًا، لكن الحكومات المتعاقبة، الّتي تدّعي حماية حقوق الإنسان، أبقته في السّجن أكثر من 40 عامًا، لأن الموساد والسي آي إيه أمروها بذلك.
فرنسا… دولة فاقدة للسّيادة، دورها الوظيفي إبادة العرب.
رئيسها الحاليّ طلب لقاء فيروز بعد أن أحرقوا ميناء بيروت، وطلبت منه بدورها إطلاق سراح الرّفيق جورج، فوعدها… وكذب عليها.
إنّه نهج الاستعمار، الّذي لا يرى سوى… برميل نفط!
– يا لهذه المرحلة، كم هي زاخرة بالأحداث!
الجرائم في كل~ مكان، وزوّد العم سام أتباعه بكلّ ما هو سام، وهناك سموم جديدة لم تُجرَّب بعد على شعبنا!
– بل نتنياهو على أنوف الزّعماء العرب، فشكروه قائلين: "ذلك أفضل مكيّف هوائي"!
واصلتُ مشاهدة وسائل التواصل…
يا للهول، إن أنصار الجولاني ينصبون الحواجز على المفارق ويسألون المارة:
"هل أنتم دروز؟"
وحين تكون الإجابة: "نعم"، تكون تلك… آخر كلمة يُنطق بها!
نسوا السّروج الّتي أزاحها الدّروز عن ظهور الأمّة هناك.
كلّ هذا الجنون، كلّ هذا الحرق والقتل والسّحق، كي يهنأ شعب الله المختار!
العملية الثّانية كانت، أيضًا، دخولًا إلى شرايين القلب، ولكن هذه المرّة من اليد اليمنى. وكانت أصعب من الأولى.
تولّاني السّعال ، لأوّل مرة في حياتي… ما أصعبه من سعال!
ورغم ذلك، كنت كلّ ساعة تقريبًا أسأل عن الأخبار.
قال الطّبيب العربي:
– أي أخبار يا عمّي؟ خلينا نعرف نشتغل!
– هل كلّ الأطباء في هذا القسم عرب؟
– لا… لا، صدفة. في كثير أطباء عرب. لا تكثّر علينا الغلبة.
– هل ما زالت الإبادة مستمرّة؟ هل ما زالوا يسبحون في برك الدّمّ؟
– افففففف، بالله عليك، اهتمّ بنفسك! لا تسبّب لنا سَجنة! هون مشفى، مش مكان ثاني!
– أنا مجنون؟! أنا جزء من الواقع!
أنا لست صفرًا على الشمال…
وكأنّي شُفيت من مرض القلب… لأعود إلى مرض الوطن.
وخرجت من غرفة العمليات… إلى واقعٍ لا تخدير له.
مستشفى الكرمل – حيفا – 30.07.2025- هادي زاهر
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق