بقلم: رانية مرجية
في زمنٍ تختلط فيه الألسنة وتتآكل فيه المعاني، تصبح الكلمة ليست فقط وسيلة تعبير، بل حقًّا في التسمية، وواجبًا في التصحيح، وصرخةَ هوية لا يجوز خفض نبرتها أو تشويه ملامحها. ولهذا، نقولها واضحة، ثابتة، بلا مواربة أو خجل: نحن مسيحيون ولسنا نصارى.
إنّ هذه ليست معركة مصطلحات أو جدلًا لغويًا عابرًا، بل هي وقفة ضمير في وجه تشويه تاريخيّ وثقافيّ ودينيّ، استمر لعقودٍ طويلة. وقفة تقول: لسنا استعارة لأحد، ولسنا فرعًا ثانويًا في كتاب الآخر، ولسنا اسماً أُطلِقَ علينا تعسفًا ثم صُدّر كأنه حقيقة لغوية منزّلة.
من النسب إلى النَصّ: كيف بدأ التزوير؟
في اللغة العربية، وخصوصًا في النصّ القرآني، يظهر مصطلح “النصارى” مرارًا للإشارة إلى أتباع السيد المسيح، عليه السلام. إلا أنّ السياق الذي استُعمل فيه هذا اللفظ لا يُعبّر عن المسيحيين كما هم اليوم، ولا كما كانوا في جوهر إيمانهم منذ البدء، بل عن طائفة تاريخية، ربما تأثرت بمرجعيات يهودية أو بدع لاهوتية، لا تمثّل العقيدة المسيحية الأرثوذكسية أو الكاثوليكية أو حتى البروتستانتية الحديثة.
إنّ “النصارى” بالمعنى الذي ورد في بعض التفاسير الإسلامية القديمة، كانوا يُنسبون إلى “ناصره” أو “ناصرة” – مسقط رأس يسوع الناصري – لكنّهم في أغلب الأحيان كانوا يُفهمون كجماعة انحرفت عن الناموس أو تأوّلت الوحي بما لا يتّفق مع الرؤية الإسلامية. ولذا، فإنّ استعمال مصطلح “النصارى” في السياق الإسلامي التقليدي، ارتبط بإشارات عقديّة لا تعكس صورة المسيحي كما هو في الواقع، بل كما تُرجم ضمن سياقٍ دينيٍّ آخر.
نحن مسيحيون.. هذا اسمنا وهذا وجعنا
حين نقول “نحن مسيحيون”، فإننا لا نمارس الترف اللغوي، بل نستعيد حقّنا في التسمية كما نسمّي أنفسنا. اسمنا ينبع من المسيح، لا من تأويل خارجي لتاريخنا. والمسيحية ليست حالة تبشيرية عابرة ولا ديانة أُدرجت بين صفحات كتب الفقه، بل حضور حيّ، متجذر، مشبعٌ بالمعاناة والعطاء في هذه الأرض، من فلسطين حتى لبنان، ومن العراق حتى مصر، ومن الشام حتى أعماق أفريقيا.
نحن من لبثنا في هذه الأرض، نحمل صليبها وقيامة أملها، ونتقن الشهادة بالصمت كما بالنار. نحن من كتبنا بالعربية أناجيلنا، وصغنا بالحروف السريانية تراتيلنا، ورفعنا الصلاة في كنائس كانت وما زالت بيوتًا للسلام حين انغلقت نوافذ العالم.
المصطلح ليس بريئًا: الوعي والاغتراب المعجمي
إنّ الإصرار على تسمية المسيحي بـ”النصراني”، ليس فقط اختزالاً، بل تشويشًا متعمدًا أحيانًا، يُراد منه نزع المشروعية الحضارية عن حضورنا التاريخي. فما بين “نصراني” و”مسيحي” خيط دقيق يُشبه الفرق بين من يُسمّي نفسه، ومن يُفرض عليه اسم من الخارج، كما يُفرض عليه تاريخ مشوّه ودور هامشي.
في التراث المسيحي العربي، لم نجد يومًا كاهنًا نادى بـ”يا نصارى”، ولا مؤمنًا صلّى في كنيسة “النصارى”. نحن “المسيحيون”، وهكذا نوقّع أنفسنا على جدران المغاور وفي زوايا الأيقونات، وهكذا عرّفنا المفكرون العرب من ميخائيل نعيمة إلى الأب لويس شيخو، ومن جبران خليل جبران إلى المطران جورج خضر.
بين الجهل والتواطؤ: من يستخدم المصطلح ولماذا؟
قد يستخدم بعض الناس كلمة “النصارى” بحسن نية، دون أن يدركوا الأبعاد التاريخية والمفاهيمية التي تحيط بها. وقد يصرّ آخرون، باسم “التمسك بالقرآن”، على أن هذا هو المصطلح الشرعي، ناسفين السياق، ومتجاهلين تطور الوعي الديني واللغوي.
لكننا لا يمكن أن نصمت أمام ذلك. لأن السكوت ليس تواضعًا، بل موافقة ضمنية على الطمس. ولسنا مستعدّين، نحن أبناء الكنائس الشرقية، أن نُمسَخ في لغتنا، بعد أن مُسِخنا في أوطاننا، وذُبحنا في هويتنا، وهُجّرنا من مدننا، وشُوّهت رموزنا.
خاتمة: أن تُسمّي نفسك.. هو أول شكل من أشكال المقاومة
أن نقول “نحن مسيحيون” ليس تمرينًا في البلاغة ولا ترفًا في الوعي. بل هو موقف وجوديّ وصرخة انتماء ومرآة كرامة. فمن لا يستطيع أن يُسمّي نفسه، لا يستطيع أن يدافع عن حقّه، ولا أن يكتب تاريخه، ولا أن يورث أبناءه ذاكرة نقية.
فلنكفّ عن مجاملة الجهل، ولنمتنع عن التواطؤ مع الاستسهال، ولتكن الأسماء واضحة كما الدم، ناصعة كما الشهادة، جليّة كما صلاتنا الأولى في بيت لحم
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق